الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»
.تفسير الآية رقم (59): {وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59)}قرأ الحسن: {الحلم} فحذف الضمة لثقلها. والمعنى: أن الأطفال أمروا بالاستئذان في الأوقات الثلاثة المذكورة، وأبيح لهم الامر في غير ذلك كما ذكرنا. ثم أمر الله تعالى في هذه الآية أن يكونوا إذا بلغوا الحلم على حكم الرجال في الاستئذان في كل وقت. وهذا بيان من الله عز وجل لاحكامه وإيضاح حلاله وحرامه، وقال: {فَلْيَسْتَأْذِنُوا} ولم يقل فليستأذنوكم.وقال في الأولى: {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ} لان الأطفال غير مخاطبين ولا متعبدين.وقال ابن جريج: قلت لعطاء {وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} قال: واجب على الناس أن يستأذنوا إذا احتلموا، أحرارا كانوا أو عبيدا.وقال أبو إسحاق الفزاري: قلت للاوزاعي ما حد الطفل الذي يستأذن؟ قال: أربع سنين، قال لا يدخل على امرأة حتى يستأذن. وقاله الزهري: أي يستأذن الرجل على أمه، وفي هذا المعنى نزلت هذه الآية..تفسير الآية رقم (60): {وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)}فيه خمس مسائل:الأولى: قوله تعالى: {وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ} القواعد واحدتها قاعد، بلا هاء، ليدل حذفها على أنه قعود الكبر، كما قالوا: امرأة حامل، ليدل بحذف الهاء أنه حمل حبل. قال الشاعر:وقالوا في غير ذلك: قاعدة في بيتها، وحاملة على ظهرها، بالهاء. والقواعد أيضا: أساس البيت، واحدة قاعدة، بالهاء.الثانية: القواعد: العجز اللواتي قعدن عن التصرف من السن، وقعدن عن الولد والمحيض، هذا قول أكثر العلماء. قال ربيعة: هي التي إذا رأيتها تستقذرها من كبرها.وقال أبو عبيدة: اللاتي قعدن عن الولد، وليس ذلك بمستقيم، لان المرأة تقعد عن الولد وفيها مستمتع، قاله المهدوي.الثالثة: قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ} إنما خص القواعد بذلك لانصراف الأنفس عنهن، إذ لا يذهب للرجال فيهن، فأبيح لهن ما لم يبح لغيرهن، وأزيل عنهم كلفة التحفظ المتعب لهن.الرابعة: قرأ ابن مسعود وأبى وابن عباس: {أن يضعن من ثيابهن} بزيادة {من} قال ابن عباس: وهو الجلباب. وروي عن ابن مسعود أيضا: {مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} والعرب تقول: امرأة واضع، للتي كبرت فوضعت خمارها.وقال قوم: الكبيرة التي أيست من النكاح، لو بدا شعرها فلا بأس، فعلى هذا يجوز لها وضع الخمار. والصحيح أنها كالشابة في التستر، إلا أن الكبيرة تضع الجلباب الذي يكون فوق الدرع والخمار، قاله ابن مسعود وابن جبير وغيرهما.الخامسة: قوله تعالى: {غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ} أي غير مظهرات ولا متعرضات بالزينة لينظر إليهن، فإن ذلك من أقبح الأشياء وأبعده عن الحق. والتبرج: التكشف والظهور للعيون، ومنه: بروج مشيدة. وبروج السماء والأسوار، أي لا حائل دونها يسترها.وقيل لعائشة رضي الله عنها: يا أم المؤمنين، ما تقولين في الخضاب والصباغ والتمائم والقرطين والخلخال وخاتم الذهب ورقاق الثياب؟ فقالت: يا معشر النساء، قصتكن قصة امرأة واحدة، أحل الله لكن الزينة غير متبرجات لمن لا يحل لكن أن يروا منكن محرما.وقال عطاء: هذا في بيوتهن، فإذا خرجت فلا يحل لها وضع الجلباب. وعلى هذا {غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ} غير خارجات من بيوتهن. وعلى هذا يلزم أن يقال: إذا كانت في بيتها فلا بدلها من جلباب فوق الدرع، وهذا بعيد، إلا إذا دخل عليها أجنبي. ثم ذكر تعالى أن تحفظ الجميع منهن، واستعفافهن عن وضع الثياب والتزامهن ما يلزم الشباب أفضل لهن وخير. وقرأ ابن مسعود: {وأن يتعففن} بغير سين. ثم قيل: من التبرج أن تلبس المرأة ثوبين رقيقين يصفانها. روى الصحيح عن أبى هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صنفان من أهل النار لم أرهما قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا». قال ابن العربي: وإنما جعلهن كاسيات لان الثياب عليهن، وإنما وصفهن بأنهن عاريات لان الثواب إذا رق يصفهن، ويبدي محاسنهن، وذلك حرام. قلت: هذا أحد التأويلين للعلماء في هذا المعنى. والثاني- أنهن كاسيات من الثياب عاريات من لباس التقوى الذي قال الله تعالى فيه: {وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ}.وأنشدوا: وفي صحيح مسلم عن أبى سعيد الخدري قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بينا أنا نائم رأيت الناس يعرضون على وعليهم قمص منها ما يبلغ الثدي ومنها ما دون ذلك ومر عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره» قالوا: ماذا أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: «الدين». فتأويله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القميص بالدين مأخوذ من قوله تعالى: {وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ}. العرب تكنى عن الفضل والعفاف بالثياب، كما قال شاعرهم:ثياب بنى عوف طهارى نقيةوقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعثمان: «إن الله سيلبسك قميصا فإن أرادوك أن تخلعه فلا تخلعه». فعبر عن الخلافة بالقميص، وهى استعارة حسنة معروفة. قلت: هذا التأويل أصح التأويلين، وهو اللائق بهن في هذه الأزمان، وخاصة الشباب، فإنهن يتزين ويخرجن متبرجات، فهن كاسيات بالثياب عاريات من التقوى حقيقة، ظاهرا وباطنا، حيث تبدي زينتها، ولا تبالي بمن ينظر إليها، بل ذلك مقصودهن، وذلك مشاهد في الوجود منهن، فلو كان عندهن شيء من التقوى لما فعلن ذلك، ولم يعلم أحد ما هنالك. ومما يقوي هذا التأويل ما ذكر من وصفهن في بقية الحديث في قوله: «رءوسهن كأسنمة البخت». والبخت ضرب من الإبل عظام الأجسام، عظام الاسنمة، شبه رءوسهن بها لما رفعن من ضفائر شعورهن على أوساط رءوسهن. وهذا مشاهد معلوم، والناظر إليهن ملوم. قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء». خرجه البخاري. .تفسير الآية رقم (61): {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)}فيه إحدى عشرة مسألة: الأولى: قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ} اختلف العلماء في تأويل هذه الآية على أقوال ثمانية. أقربها- هل هي منسوخة أو ناسخة أو محكمة، فهذه ثلاثة أقوال: الأول- أنها منسوخة من قوله تعالى: {وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ} إلى آخر الآية، قاله عبد الرحمن بنزيد، قال: هذا شيء انقطع، كانوا في أول الإسلام ليس على أبوابهم أغلاق، وكانت الستور مرخاة، فربما جاء الرجل فدخل البيت وهو جائع وليس فيه أحد، فسوغ الله عز وجل أن يأكل منه، ثم صارت الاغلاق على البيوت فلا يحل لاحد أن يفتحها، فذهب هذا وانقطع. قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يحتلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه..» الحديث. خرجه الأئمة.الثاني- أنها ناسخة، قاله جماعة. روى علي بن أبى طلحة عن ابن عباس قال: لما أنزل الله عز وجل: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ} قال المسلمون: إن الله عز وجل قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل، وأن الطعام من أفضل الأموال، فلا يحل لاحد منا أن يأكل عند أحد، فكف الناس عن ذلك، فأنزل الله عز وجل: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ}- إلى- {أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ}. قال: هو الرجل يوكل الرجل بضيعته. قلت: علي بن أبى طلحة هذا هو مولى بنى هاشم سكن الشام، يكنى أبا الحسن ويقال أبا محمد، اسم أبيه أبى طلحة سالم، تكلم في تفسيره، فقيل: إنه لم ير ابن عباس، والله أعلم.الثالث- أنها محكمة، قاله جماعة من أهل العلم ممن يقتدي بقولهم، منهم سعيد ابن المسيب وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود.وروى الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان المسلمون يوعبون في النفير مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكانوا يدفعون مفاتيحهم إلى ضمناهم ويقولون: إذا احتجتم فكلوا، فكانوا يقولون إنما أحلوه لنا عن غير طيب نفس، فأنزل الله عز وجل: {وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ} إلى آخر الآية. قال النحاس: يوعبون أي يخرجون بأجمعهم في المغازي، يقال: أوعب بنو فلان لبنى فلان إذا جاءوهم بأجمعهم.وقال ابن السكيت: يقال أوعب بنو فلان جلاء، فلم يبق ببلدهم منهم أحد. وجاء الفرس بركض وعيب، أي بأقصى ما عنده.وفي الحديث: «في الأنف إذا استوعب جدعه الدية» إذا لم يترك منه شي. واستيعاب الشيء استئصاله. ويقال: بيت وعيب إذا كان واسعا يستوعب كل ما جعل فيه. والضمنى هم الزمنى، واحدهم ضمن زمن. قال النحاس: وهذا القول من أجل ما روي في الآية، لما فيه عن الصحابة والتابعين من التوقيف أن الآية نزلت في شيء بعينه. قال ابن العربي: وهذا كلام منتظم لأجل تخلفهم عنهم في الجهاد وبقاء أموالهم بأيديهم، لكن قوله: {أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ} قد اقتضاه، فكان هذا القول بعيدا جدا. لكن المختار أن يقال: إن الله رفع الحرج عن الأعمى فيما يتعلق بالتكليف الذي يشترط فيه البصر، وعن الأعرج فيما يشترط في التكليف به من المشي، وما يتعذر من الافعال مع وجود العرج، وعن المريض فيما يؤثر المرض في إسقاطه، كالصوم وشروط الصلاة وأركانها، والجهاد ونحو ذلك. ثم قال بعد ذلك مبينا: وليس عليكم حرج في أن تأكلوا من بيوتكم. فهذا معنى صحيح، وتفسير بين مفيد، ويعضده الشرع والعقل، ولا يحتاج في تفسير الآية إلى نقل. قلت: وإلى هذا أشار ابن عطية فقال: فظاهر الآية وأمر الشريعة يدل على أن الحرج عنهم مرفوع في كل ما يضطرهم إليه العذر، وتقتضي نيتهم فيه الإتيان بالأكمل، ويقتضى العذر أن يقع منهم الأنقص، فالحرج مرفوع عنهم في هذا. فأما ما قال الناس في هذا الحرج هنا وهى: الثانية: فقال ابن زيد: وهو الحرج في الغزو، أي لا حرج عليهم في تأخرهم. وقوله تعالى: {ولا على أنفسكم} الآية، معنى مقطوع من الأول. وقالت فرقة: الآية كلها في معنى المطاعم. قالت: وكانت العرب ومن بالمدينة قبل المبعث تتجنب الأكل مع أهل الاعذار، فبعضهم كان يفعل ذلك تقذرا لجولان اليد من الأعمى، ولانبساط الجلسة من الأعرج، ولرائحة المريض وعلاته، وهى أخلاق جاهلية وكبر، فنزلت الآية مؤذنة.وبعضهم كان يفعل ذلك تحرجا من غير أهل الاعذار، إذ هم مقصرون عن درجة الأصحاء في الأكل، لعدم الرؤية في الأعمى، وللعجز عن المزاحمة في الأعرج، ولضعف المريض، فنزلت الآية في إباحة الأكل معهم.وقال ابن عباس في كتاب الزهراوي: إن أهل الاعذار تحرجوا في الأكل مع الناس من أجل عذرهم، فنزلت الآية مبيحة لهم.وقيل: كان الرجل إذا ساق أهل العذر إلى بيته فلم يجد فيه شيئا ذهب به إلى بيوت قرابته، فتحرج أهل الاعذار من ذلك، فنزلت الآية.الثالثة: قوله تعالى: {وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ} هذا ابتداء كلام، أي ولا عليكم أيها الناس. ولكن لما اجتمع المخاطب وغير المخاطب غلب المخاطب لينتظم الكلام. وذكر بيوت القربات وسقط منها بيوت الأبناء، فقال المفسرون: ذلك لأنها داخلة في قوله: {فِي بُيُوتِكُمْ} لان بيت ابن الرجل بيته وفي الخبر: «أنت ومالك لأبيك». ولأنه ذكر الأقرباء بعد ولم يذكر الأولاد. قال النحاس: وعارض بعضهم هذا القول فقال: هذا تحكم على كتاب الله تعالى، بل الأولى في الظاهر ألا يكون الابن مخالفا لهؤلاء، وليس الاحتجاج بما روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أنت ومالك لأبيك» بقوي لوهى هذا الحديث، وأنه لو صح لم تكن فيه حجة، إذ قد يكون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علم أن مال ذلك المخاطب لأبيه. وقد قيل إن المعنى: أنت لأبيك، ومالك مبتدأ، أي ومالك لك. والقاطع لهذا التوارث بين الأب والابن.وقال الترمذي الحكيم: ووجه قوله تعالى: {وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} كأنه يقول مساكنكم التي فيها أهاليكم وأولادكم، فيكون للأهل والولد هناك شيء قد أفادهم هذا الرجل الذي له المسكن، فليس عليه حرج أن يأكل معهم من ذلك القوت، أو يكون للزوجة والولد هناك شيء من ملكهم فليس عليه في ذلك حرج.الرابعة: قوله تعالى: {أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ} قال بعض العلماء: هذا إذا أذنوا له في ذلك.وقال آخرون: أذنوا له أو لم يأذنوا فله أن يأكل، لان القرابة التي بينهم هي إذن منهم. وذلك لان في تلك القرابة عطفا تسمح النفوس منهم بذلك العطف أن يأكل هذا من شيئهم ويسروا بذلك إذا علموا. ابن العربي: أباح لنا الأكل من جهة النسب من غير استئذان إذا كان الطعام مبذولا، فإذا كان محوزا دونهم لم يكن لهم أخذه، ولا يجوز أن يجاوزوا إلى الادخار، ولا إلى ما ليس بمأكول وإن غير محوز عنهم إلا بإذن منهم.الخامسة: قوله تعالى: {أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ} يعني مما اختزنتم وصار في قبضتكم. وعظم ذلك ما ملكه الرجل في بيته وتحت غلقه، وذلك هو تأويل الضحاك وقتادة ومجاهد. وعند جمهور المفسرين يدخل في الآية الوكلاء والعبيد والاجراء. قال ابن عباس: عني وكيل الرجل على ضيعته، وخازنه على ماله، فيجوز له أن يأكل مما هو قيم عليه. وذكر معمر عن قتادة عن عكرمة قال: إذا ملك الرجل المفتاح فهو خازن، فلا بأس أن يطعم الشيء اليسير. ابن العربي: وللخازن أن يأكل مما يخزن إجماعا، وهذا إذا لم تكن له أجرة، فأما إذا كانت له أجرة على الخزن حرم عليه الأكل. وقرأ سعيد بن جبير: {ملكتم} بضم الميم وكسر اللام وشدها. وقرأ أيضا {مفاتيحه} بياء بين التاء والحاء، جمع مفتاح، وقد مضى في الأنعام. وقرأ قتادة: {مفتاحه} على الافراد.وقال ابن عباس: نزلت هذه الآية في الحارث بن عمرو، خرج مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غازيا وخلف مالك بن زيد على أهله، فلما رجع وجده مجهودا فسأله عن حاله فقال: تحرجت أن آكل من طعامك بغير إذنك، فأنزل الله تعالى هذه الآية.السادسة: قوله تعالى: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} الصديق بمعنى الجمع، وكذلك العدو، قال الله تعالى: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي} [الشعراء: 77].وقال جرير:والصديق من يصدقك في مودته وتصدقه في مودتك. ثم قيل: إن هذا منسوخ بقوله: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} [الأحزاب: 53]، وقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها} [النور: 28] الآية، وقوله عليه السلام: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة نفس منه».وقيل: هي محكمة، وهو أصح. ذكر محمد بن ثور عن معمر قال: دخلت بيت قتادة فأبصرت فيه رطبا فجعلت آكله، فقال: / ما هذا؟ فقلت: أبصرت رطبا في بيتك فأكلت، قال: أحسنت، قال الله تعالى: {أَوْ صَدِيقِكُمْ}.وذكر عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} قال: إذا دخلت بيت صديقك من غير مؤامرته لم يكن بذلك بأس.وقال معمر: قلت لقتادة: ألا أشرب من هذا الحب؟ قال: أنت لي صديق! فما هذا الاستئذان. وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدخل حائط أبى طلحة المسمى ببيرحا ويشرب من ماء فيها طيب بغير إذنه، على ما قاله علماؤنا، قالوا: والماء متملك لأهله. وإذا جاز الشرب من ماء الصديق بغير إذنه جاز الأكل من ثماره وطعامه إذا علم أن نفس صاحبه تطيب به لتفاهته ويسير مؤنته، أو لما بينهما من المودة. ومن هذا المعنى إطعام أم حرام له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا نام عندها، لان الأغلب أن ما في البيت من الطعام هو للرجل، وأن يد زوجته في ذلك عارية. وهذا كله ما لم يتخذ الأكل خبنة، ولم يقصد بذلك وقاية ماله، وكان تافها يسيرا.السابعة: قرن الله عز وجل في هذه الآية الصديق بالقرابة المحضة الوكيدة، لان قرب المودة لصيق. قال ابن عباس في كتاب النقاش: الصديق أو كد من القرابة، ألا ترى استغاثة الجهنميين: {فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ. وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء: 100- 101]. قلت: ولهذا لا تجوز عندنا شهادة الصديق لصديقه، كما لا تجوز شهادة القريب لقريبه. وقد مضى بيان هذا والعلة فيه في النساء.وفي المثل أيهم أحب إليك أخوك أم صديقك قال: أخى إذا صديقي.الثامنة: قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً} قيل: إنها نزلت في بنى ليث بن بكر، وهم حي من بنى كنانة، وكان الرجل منهم لا يأكل وحده ويمكث أياما جائعا حتى يجد من يؤاكله. ومنه قول بعض الشعراء: قال ابن عطية: وكانت هذه السيرة موروثة عندهم عن إبراهيم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنه كان لا يأكل وحده. وكان بعض العرب إذا كان له ضيف لا يأكل إلا أن يأكل مع ضيفه، فنزلت الآية مبينة سنة الأكل، ومذهبة كل ما خالفها من سيرة العرب، ومبيحة من أكل المنفرد ما كان عند العرب محرما، نحت به نحو كرم الخلق، فأفرطت في إلزامه، وإن إحضار الأكيل لحسن، ولكن بألا يحرم الانفراد.التاسعة: قوله تعالى: {جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً} {جميعا} نصب على الحال. و{أَشْتاتاً} جمع شت، والشت المصدر بمعنى التفرق، يقال: شت القوم أي تفرقوا. وقد ترجم البخاري في صحيحه باب- ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج الآية. و: النهد والاجتماع. ومقصوده فيما قاله علماؤنا في هذا الباب: إباحة الأكل جميعا وإن اختلفت أحوالهم في الأكل. وقد سوغ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك، فصارت تلك سنة في الجماعات التي تدعى إلى الطعام في النهد والولائم وفي الإملاق في السفر. وما ملكت مفاتحه بأمانة أو قرابة أو صداقة فلك أن تأكل مع القريب أو الصديق ووحدك. والنهد: ما يجمعه الرفقاء من مال أو طعام على قدر في النفقة ينفقونه بينهم، وقد تناهدوا، عن صاحب العين.وقال ابن دريد: يقال من ذلك: تناهد القوم الشيء بينهم. الهروي: وفي حديث الحسن: «أخرجوا نهدكم فإنه أعظم للبركة وأحسن لاخلاقكم». النهد: ما تخرجه الرفقة عند المناهدة، وهو استقسام النفقة بالسوية في السفر وغيره. والعرب تقول: هات نهدك، بكسر النون. قال المهلب: وطعام النهد لم يوضع للآكلين على أنهم يأكلون بالسواء، وإنما يأكل كل واحد على قدر نهمته، وقد يأكل الرجل أكثر من غيره. وقد قيل: إن تركها أشبه بالورع. وإن كانت الرفقة تجتمع كل يوم على طعام أحدهم فهو أحسن من النهد لأنهم لا يتناهدون إلا ليصيب كل واحد منهم من ماله، ثم لا يدري لعل أحدهم يقصر عن ماله ويأكل غيره أكثر من ماله، وإذا كانوا يوما عند هذا ويوما عند هذا بلا شرط فإنما يكونون أضيافا والضيف يأكل بطيب نفس مما يقدم إليه.وقال أيوب السختياني: إنما كان النهد أن القوم كانوا يكونون في السفر فيسبق بعضهم إلى المنزل فيذبح ويهيئ الطعام ثم يأتيهم، ثم يسبق أيضا إلى المنزل فيفعل مثل ذلك، فقالوا: إن هذا الذي تصنع كلنا نحب أن نصنع مثله فتعالوا نجعل بيننا شيئا لا يتفضل بعضنا على بعض، فوضعوا النهد بينهم. وكان الصلحاء إذا تناهدوا تحرى أفضلهم أن يزيد على ما يخرجه أصحابه، وإن لم يرضوا بذلك منه إذا علموه فعله سرا دونهم.العاشرة: قوله تعالى: {فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} اختلف المتأولون في أي البيوت أراد، فقال إبراهيم النخعي والحسن: أراد المساجد، والمعنى: سلموا على من فيها من ضيفكم. فإن لم يكن في المساجد أحد فالسلام أن يقول المرء: السلام على رسول الله.وقيل: يقول السلام عليكم، يريد الملائكة، ثم يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.وذكر عبد الرزاق أخبرنا معمر عن عمرو بن دينار عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ} الآية، قال: إذا دخلت المسجد فقل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.وقيل: المراد بالبيوت البيوت المسكونة، أي فسلموا على أنفسكم. قاله جابر بن عبد الله وابن عباس أيضا وعطاء بن أبى رباح. وقالوا: يدخل في ذلك البيوت غير المسكونة، ويسلم المرء فيها على نفسه بأن يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. قال ابن العربي: القول بالعموم في البيوت هو الصحيح، ولا دليل على التخصيص، وأطلق القول ليدخل تحت هذا العموم كل بيت كان للغير أو لنفسه، فإذا دخل بيتا لغيره استأذن كما تقدم، فإذا دخل بيتا لنفسه سلم كما ورد في الخبر، يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، قاله ابن عمر. وهذا إذا كان فارغا، فإن كان فيه أهله وخدمه فليقل: السلام عليكم. وإن كان مسجدا فليقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. وعليه حمل ابن عمر البيت الفارغ. قال ابن العربي: والذي أختاره إذا كان البيت فارغا ألا يلزم السلام، فإنه إن كان المقصود الملائكة فالملائكة لا تفارق العبد بحال، أما إنه إذا دخلت بيتك يستحب لك ذكر الله بأن تقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله. وقد تقدم في سورةالكهف.وقال القشيري في قوله: {فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً}: والأوجه أن يقال إن هذا عام في دخول كل بيت، فإن كان فيه ساكن مسلم يقول السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وإن لم يكن فيه ساكن يقول السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وإن كان في البيت من ليس بمسلم قال السلام على من اتبع الهدى، أو السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.وذكر ابن خويز منداد قال: كتب إلى أبو العباس الأصم قال حدثنا محمد ابن عبد الله بن عبد الحكم قال حدثنا ابن وهب قال حدثنا جعفر بن ميسرة عن زيد بن أسلم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إذا دخلتم بيوتا فسلموا على أهلها واذكروا اسم الله فإن أحدكم إذا سلم حين يدخل بيته وذكر اسم الله تعالى على طعامه يقول الشيطان لأصحابه لا مبيت لكم ها هنا ولا عشاء وإذا لم يسلم أحدكم إذا دخل ولم يذكر اسم الله على طعامه قال الشيطان لأصحابه أدركتم المبيت والعشاء». قلت: هذا الحديث ثبت معناه مرفوعا من حديث جابر، خرجه مسلم.وفي كتاب أبى داود عن أبى مالك الأشجعي قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا ولج الرجل بيته فليقل اللهم إنى أسألك خير الولوج وخير الخروج باسم الله ولجنا وباسم الله خرجنا وعلى الله ربنا توكلنا ليسلم على أهله».الحادية عشرة: قوله تعالى: {تَحِيَّةً} مصدر، لان قوله: {فَسَلِّمُوا} معناه فحيوا. وصفها بالبركة لان فيها الدعاء واستجلاب مودة المسلم عليه. ووصفها أيضا بالطيب لان سامعها يستطيبها. والكاف من قوله: {كَذلِكَ} كاف تشبيه. و{ذلك} إشارة إلى هذه السنن، أي كما بين لكم سنة دينكم في هذه الأشياء يبين لكم سائر ما بكم حاجة إليه في دينكم.
|